الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
فالمفقود هو الذي لا يُعلم موته من حياته بسبب الحرب أو السفر أو الوباء أو الانقطاع عن الأهل.
وبسبب الحرب على قطاع غزة فقد تكررت حالات مع المفقودين ونسائهم مما أشكل الأمر على كثير من الناس لذا أبين حكم المفقود من حيث استمرار الحياة الزوجية بينه وبين زوجه حتى يتبين أمره أو يحكم فيه القضاء كما يأتي:
أولًا- المفقود في الحرب كما عندنا تتبرص زوجه أربع سنين، ثم تعتد عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا، وبعدها تحل للزواج.
فإن تبين حالُه بيقين أو بغلبة الظن -كأن شهد اثنان عدلان، أو أعلم به جهات الاختصاص من نحو وزارة أو مؤسسة الصليب أو نحو ذلك- أنه مات قطعت زوجُه التربص وبدأت في العدة أربعة أشهر وعشرًا من يوم إعلامها، والأفضل أن يكون التواصل مع القاضي الشرعي ليحكم بموته بناءً على البينات والشهود، وبعد انتهاء العدة تصبح قابلة للزواج.
ثانيًا- تربصت زوجة المفقود المدة واعتدت وانتهت عدتها فرجع المفقود -قبل زواجها من آخر- رجعت له بالعقد الأول -ولا يجدد عقد- لأن الأصل بقاء الحياة الزوجية.
ثالثًا- تربصت زوجة المفقود المدة، واعتدت وانتهت عدتها، وتزوجت بآخر، ثم تبين زوجها المفقود أنه حي ورجع:
أ- إن رجع المفقود بعد زواج امرأته وقبل الدخول بها -عقد فقط- رجعت له من غير تجديد العقد وترد الزوجة المهر للثاني.
ب- إن رجع المفقود بعد زواج امرأته والدخول بها خير-المفقود- بين رجوعها وبين رد المهر له، فإن اختارها اعتدت من الزوج الثاني ثلاثة قروء؛ استبراءً للرحم إن كانت خالية من الحمل؛ لقول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } [البقرة: 228]، وإن كانت حاملًا فعدتها وضع الحمل؛ لقول الله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]. ثم ترجع للأول -المفقود- بالعقد الأول؛ لأن الأصل بقاؤه وما حصل من غيبة طارئ لا يضر، ولا يحل للزوج الأول أن يرجع إليها قبل انتهاء العدة فإن انتهت حلت له بدون تجديد العقد.
ت- إن حملت زوجة المفقود من الزوج الثاني فهو شرعي ينسب إليه لشبهة العقد.
ث- بالنسبة لمهر الزوجة من الزوج الثاني، اتفق الفقهاء على أنها تستحقه بالبضع فلا يرد له، فإن طالب به فيستحسن أن ترجعه الزوجة له تطييبًا لخاطره، قال الله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 237]. فإن لم ترجعه الزوجه فعلى ولي الأمر أن يضمنه له، ولو من زكاة الأموال؛ حتى نيسر عليه أمر الزواج من جديد، حيث لم يقصر هذا الزوج، ودفع مهرًا لتستديم حياته الزوجية، فطرأ طارئ لا دخل له فيه، وليكون محفزًا لغيره إذا تزوج من زوجات المفقودين.
والأفضل في مثل هذه الحال أن يختار الزوج الأول رد مهره مقابل تركه حقه من الرجوع إلى زوجه إلا إذا اختارت الزوجة البقاء مع الأول فترد إليه، كل هذا لتستديم الحياة الزوجية بين الأزواج.
رابعًا- إن ادعت امرأة وفاة زوجها بشهادة عدلين، واعتدت منه، وحلت للزواج وتزوجت بآخر، وتبين بعد ذلك أن زوجها حي فرق بينهما لوجود العقد الصحيح للزوج الأول.
وإن ادعت وفاة زوجها بغير بينة واعتدت منه، وتقدمت للزواج منعها القاضي حتى تثبت وفاته بالبينة الشرعية، فإن تزوجت بدون علم القاضي لم يصح العقد، وكانت المباشرة بين الزوجين حرامًا، وإن ولدت له نسب الولد إليهما لشبهة العقد.
فإن رجع الزوج الأول -المفقود- فهو أحق بها، فترجع إليه بعد استبراء رحمها.
والعمدة في هذا الموضوع -المفقود- آثار كثيرة وردت عن الصحابة، أقتصر على بعضها:
1- عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ فَقَدَتْ زَوْجَهَا، فَلَمْ تَدْرِ أَيْنَ هُوَ؟ فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ تَعْتَدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً، ثُمَّ تَحِلُّ. [رواه مالك بسند صحيح (4/ 828) رقم 2134].
2- عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ رحمه الله: أَنَّهُ شَهِدَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما تَذَاكَرَا امْرَأَةَ الْمَفْقُودِ فَقَالَا: 'تَرَبَّصُ بِنَفْسِهَا أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ'. [رواه البيهقي بسند صحيح (7/ 732) رقم 15569].
وعليه فإن المرأة التي فقدت زوجها امرأة مبتلاة، عليها الصبر والرضا والتريث والتقوى، فتحافظ على إرث زوجها من الأيتام، فتضمهم إليها، وتربيهم تربية حسنة وتكفلهم، ولها أجر عظيم، وإن احتاجت للزواج فلا حرج بعد أن تؤمن أطفالها، سواء عندها أم عند أوليائهم.
وإذا كان زوجها مفقودًا، فلا بد من الصبر والتربص أربع سنين، وتعتد بعدها أربعة أشهر وعشرًا، ثم ترفع أمرها للقاضي، وتُثبت له التربص والعدة وتَحل عندها للزواج.
أما مجرد تلقيها خبر فقده وأنه قضى ومات من غير تريث ولا بينة قوية فليس مبررًا للزواج، بل لا بد أن تسلك القنوات الشرعية والقانونية والعرفية في مثل هذه القضايا، حتى لا تندم بعدها بسبب التفريط والتعدي.
وأسأل الله أن يفرج عن شعبنا وأن يستر على بناتنا وأخواتنا اللواتي فقدن أزواجهن، وأن يعوضهن خيرًا. والله أعلى وأعلم.
الشيخ عبد الباري بن محمد خلة