الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
فقد كانت لحيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عظيمة تملأ صدره فعَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجِلًا مَرْبُوعًا عَرِيضَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، كَثَّ اللِّحْيَةِ، تَعْلُوهُ حُمْرَةٌ جُمَّتُهُ إِلَى شَحْمَتَيْ أُذُنَيْهِ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مَا رَأَيْتُ أَحْسَنَ مِنْهُ». رواه النسائي بسند صحيح
وعَنْ يَزِيدَ الْفَارِسِيِّ وَكَانَ يَكْتُبُ الْمَصَاحِفَ قَالَ: (رَأَيْتُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي الْمَنَامِ زَمَنَ ابْنِ عباس فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي النَّوْمِ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ يَقُولُ:
(إِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَشَبَّهَ بِي فَمَنْ رَآنِي فِي النَّوْمِ فَقَدْ رَآنِي)
هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّوْمِ؟ قَالَ: نَعَمْ أَنْعَتُ لَكَ رَجُلًا بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ جِسْمُهُ وَلَحْمُهُ أَسْمَرُ إِلَى الْبَيَاضِ أَكْحَلُ الْعَيْنَيْنِ حَسَنُ الضَّحِكِ جَمِيلُ دَوَائِرِ الْوَجْهِ [قد] مَلَأَتْ لِحْيَتُهُ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ قَدْ مَلَأَتْ نَحْرَهُ. قَالَ عَوْفٌ: وَلَا أَدْرِي مَا كَانَ مَعَ هَذَا النَّعْتِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ رَأَيْتَهُ فِي الْيَقَظَةِ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تنعته فوق هذا) رواه الترمذي: الشمائل بسند حسن.
وقال الشنقيطي رحمه الله: ' أن إعفاء اللحية من السمت الذي أمرنا به القرآن العظيم، وأنه كان سمت الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم، والعجب من الذين مضخت ضمائرهم، واضمحل ذوقهم، حتى صاروا يفرون من صفات الذكورية، وشرف الرجولة، إلى الأنوثة، ويمثلون بوجوههم بحلق أذقانهم، ويتشبهون بالنساء، حيث يحاولون القضاء على أعظم الفوارق الحسية بين الذكر والأنثى وهو اللحية، وقد كان صلى الله عليه وسلم كث اللحية، وهو أجمل الخلق وأحسنهم صورة، والرجال الذين أخذوا كنوز كسرى وقيصر، ودانت لهم مشارق الأرض ومغاربها، ليس فيهم حالق.
وقال ابن سعدي رحمه الله: ' أمر صلى الله عليه وسلم بحلق الشوارب وإعفاء اللحى، وأخبر أن حلق اللحى وقصها من هدي المجوس والمشركين، وحذر أمته من ذلك، لقد أكرم الله الرجال باللحى، وجعلها لهم جمالاً ووقاراً.
واختلف الفقهاء في حكم اللحية على قولين:
القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء: الحنفية والمالكية والحنابلة، وهو قول عند الشافعية، إلى أن إعفاء اللحية واجب وأن حلقها حرام.
لأن الحلق مناقض للأمر النبوي بإعفائها وتوفيرها، قال الدسوقي: يحرم على الرجل حلق لحيته، ويؤدب فاعل ذلك.
واستدل الجمهور بأدلة أذكر بعضا منها:
1. قال الله تعالى: ' {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119]. ويدخل في التغيير حلق اللحية لعموم الآية
وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثَّ اللحية .
2. قال الله تعالى عن هارون: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي } [طه: 94]. فقد كان الأنبياء أصحاب لحى.
4. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُزُّوا الشَّوَارِبَ وَأَرْخُوا اللِّحَى خَالِفُوا الْمَجُوسَ. رواه مسلم.
القول الثاني: ذهب البعض إلى أن إعفاء اللحية سنة واستدلوا بأدلة منها:
1. قالوا كانت اللحية عادة العرب، فهي من العادات، لكن لما أقرها الرسول صلى الله عليه وسلم أصبحت سنة وليست بواجب.
2. عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ وَفِّرُوا اللِّحَى وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا حَجَّ أَوْ اعْتَمَرَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ فَمَا فَضَلَ أَخَذَهُ. رواه البخاري.
ولا حجة في الاحتجاج بأثر ابن عمر؛ لأنه يخالف الأحاديث الصحيحة في إعفاء اللحية؛ ولأن فعل ابن عمر رضي الله عنهما كان عن اجتهاد منه.
وقيل: إنه كان يريد أن الجمع بين الحلق والتقصير في الحج والعمرة.
وذكروا أدلة أخرى لم تسلم من الاعتراض والرد.
والراجح والله أعلم قول الجمهور القاضي بوجوب الإعفاء وحرمة الحلق. والله أعلى وأعلم.
الشيخ عبد الباري بن محمد خلة