الشيخ عبد الباري بن محمد خلة | مقالات | الشجاعة خلق من أخلاق المسلم

اليوم : الأحد 27 ذو القعدة 1446 هـ – 25 مايو 2025م
ابحث في الموقع

الشجاعة خلق من أخلاق المسلم


الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

فالشجاعة خُلُق كريم ووصْف نبيل، يَحمل النفس على التحلِّي بالفضائل، وهي ينبوع الأخلاق الكريمة، وهي من أعزِّ أخلاق الإسلام، وهي سرُّ بقاء البشر واستمرار الحياة على الأرض.

والشجاعة غريزة يَضعها الله فيمَن شاء من عباده.

وقد قيل فيها أقوال كثيرة:

قيل: هي جُرأة القلب وقوَّة النفس عند مواجهة الأمور الصعبة.

وقال بعض الحكماء: 'اعلَم أن كل كريهة تُرفَع أو مَكْرُمة تُكتَسب، لا تتحقَّق إلا بالشجاعة، ورؤوس الأخلاق الحسنة، أوَّلها الصبر؛ فإنَّه يَحمِل على الاحتمال وكظْم الغيظ وكفِّ الأذى، ثم العِفَّة، وهي تَجنُّب الرذائل والقبائح، ثم الشجاعة، وهي صفةٌ تَحمِل على عزَّة النفس وإيثار معالي الأخلاق، ثم العدل، فإنَّه يَحمِل على الاعتدال والتوسُّط.

وقَالَ عُمَرُ : الشَّجَاعَةُ وَالْجُبْنُ غَرَائِزُ فِي الرِّجَالِ، فَيُقَاتِلُ الشُّجَاعُ عَمَّنْ يَعْرِفُ وَمَنْ لاَ يَعْرِفُ، وَيَفِرُّ الْجَبَانُ، عَنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ. مصنف ابن أبي شيبة (12/ 233)

وقال بعضهم: 'الشجاعة هي الصبر والثبات والإقدام على الأمور النافعة تحصيلاً، وعلى الأمور السيئة دفْعًا.

والعرب يقولون: 'إن الشجاعة وقاية، والجُبن مَقتلةٌ'.

وقال بعضهم: 'الشجاعة صبر ساعة'،

والشجاعة هي القائدة إلى الأمام، وهي من صفات الكمال والجمال، وبها اتَّصف الأنبياء والمرسلون، وامتاز بها سيِّدهم محمد صلى الله عليه وسلّم؛ فعن أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً، فَخَرَجُوا نَحْوَ الصَّوْتِ، فَاسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدِ اسْتَبْرَأَ الْخَبَرَ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ، لأَبِى طَلْحَةَ، عُرْيٍ، وَفِي عُنُقِهِ السَّيْفُ، وَهُوَ يَقُولُ: لَمْ تُرَاعُوا، لَمْ تُرَاعُوا ثُمَّ قَالَ: وَجَدْنَاهُ بَحْرًا أَوْ قَالَ: إِنَّهُ لَبَحْرٌ. أخرجه البخاري.

وعَنْ أَبِي إِسْحَقَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْبَرَاءِ فَقَالَ أَكُنْتُمْ وَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ يَا أَبَا عُمَارَةَ فَقَالَ أَشْهَدُ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا وَلَّى وَلَكِنَّهُ انْطَلَقَ أَخِفَّاءُ مِنْ النَّاسِ وَحُسَّرٌ إِلَى هَذَا الْحَيِّ مِنْ هَوَازِنَ وَهُمْ قَوْمٌ رُمَاةٌ فَرَمَوْهُمْ بِرِشْقٍ مِنْ نَبْلٍ كَأَنَّهَا رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ فَانْكَشَفُوا فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ يَقُودُ بِهِ بَغْلَتَهُ فَنَزَلَ وَدَعَا وَاسْتَنْصَرَ وَهُوَ يَقُولُ أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ            أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ

اللَّهُمَّ نَزِّلْ نَصْرَكَ

قَالَ الْبَرَاءُ كُنَّا وَاللَّهِ إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِهِ وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رواه مسلم.

وعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَنَحْنُ نَلُوذُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَقْرَبُنَا إِلَى الْعَدُوِّ وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَأْسًا رواه أحمد بسند صحيح.

والشجاعة عزٌّ والجبْن ذلٌّ، والشجاع مُحبَّب إلى جميع الناس حتَّى إلى أعدائه، والجبان مُبغض.

وعن أبي هُرَيْرَةَ قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ : « شَرُّ مَا فِى رَجُلٍ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ ». رواه أبو داود بسند صحيح. الخالع: الذي يخلع فؤاده من شدة خوفه والهالع: الجازع

وكانت الشجاعة مفخرة العرب في الجاهلية أيضًا، يتفاخَرون بها، ويتمادحون، وبها عاشت الأمة الإسلامية في القرون الأولى وحازوا الشرف، وبها فتَحوا البلاد، وحكَموا العباد، وقَضوا على الظلم والعدوان.

وكان الصحابة - رضوان الله عليهم أصحاب شجاعة يقول أبو بكر الصديق لخالد بن الوليد - رضي الله عنهما -: 'احرِص على الموتِ، تُوهب لك الحياة'.

وهذا عبد الله بن رواحة، يقاتل في معركة مُؤتة ويبلي بلاء حسنًا، وكان يقول قبل أنْ ينزِل في المعركة:

أَقْسَمْتُ يا نَفْسُ لتَنْزِلِنَّهْ                              مَا لِي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الجَنَّهْ 

يَا نَفْسُ إلا تُقْتَلِي تَمُوْتِي                            هَذَا حِمَامُ المَوْتِ قَدْ صَلِيتِ

وما تَمَنَّيْتِ فَقَدْ أُعْطِيتِ                             إِنْ تَفْعَلِي فِعْلَهُمَا هُدِيتِ

وهذا البراء بن عازب - رضي الله عنه - يُلقِي بنفْسه مُقتحِمًا حديقةَ المرتدِّين حديقة الموت في حرب مُسيلِمة الكذاب، ويقتل عددا كبيرا من الأعداء.

 وهذا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه – لما قيل له: 'كيف تصرع الأبطال؟ قال: 'إذا لقيتُ أحدًا كنتُ أَقدِر أنِّي أقتله، ويُقدِّر هو أنِّي قاتِله، فأجتمِع أنا ونفسه عليه، فنَهزمه، وقيل له - رضي الله عنه -: 'إذا جالَت الخيل، فأين نَطلبك؟ قال: حيث تَركتُموني'،

وكان يقول: 'والذي نفس أبي طالب بيده، لألف ضربة بالسيف، أهون عليَّ من مَوتة على فراش.

وهذا عمرو بن الجموح، يَمنعه أبناؤه من الخروج إلى ميدان القتال، بسبب عرجه فيقول لهم: 'والله إنِّي أريد أنْ أطأَ بعَرْجَتي هذه الجنة، واستأذن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في القتال، فأذِن له، وخرَج إلى ميدان القتال، فقاتَل بشجاعة حتى نال الشهادة في سبيل الله.

ومن الشَّجاعة أن يَنطِق الإنسان بالحقَّ، فيَأمر بالمعروف، وينهى عن المنكَر فعن أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ ». أَوْ « أَمِيرٍ جَائِرٍ ». رواه أبو داود بسند صحيح.

 ويُروَى أنَّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وزَّع على الناس أثوابًا، وكان الثوب يَكفي الرَّجل حتى ساقَيه، ولا يُغطِّي سائر رجليه، وأخَذ عمر ثوبًا مِثل عامَّة الناس، وصعَد المنبر، فرآه الناس في ثوب طويل، ولما افتَتح خطبته، قال: 'أيُّها الناس، اسمعوا وأطِيعوا، فقام أحد الحاضرين، وقال: لا سمْع ولا طاعة، فسأله عمر: ولماذا؟ فأجاب الرجل: لأنك أعطيتَنا تلك الثياب القصيرة، واستأثَرت لنفْسك بهذا الثوب الطويل، فأمَر عمر بن الخطاب ابنه عبدالله أنْ يَرُدَّ على هذا الرجل، ويُبيِّن له الحقيقة، فقام عبدالله بن عمر - رضي الله عنه - ليُعلِن أنه قد تَنازَل عن ثوبه لأبيه؛ حتى يُكمل به جِلبابه، فقال الرجل: الآن قلْ، نسمَع ونُطِع.

 وهكذا كانت نساء الصحابة أيضا في شجاعتهن، فكنَّ يشتركنَ في المعارك، يقدمن الطعام والماء ويداوين الجرحى والمرضى، وقد اشتهَر من هؤلاء أمُّ عمارة نَسيبة بنت كعب، وأم عطية الأنصارية، وليلي الغِفاريَّة، وغيرهنَّ.

فما أحْوج الأمَّة الإسلامية اليوم، أنْ يربى أبناؤها على الفروسية والعسكرية؛ حتى يُعيدوا للأمة الإسلامية مجدَها.

يقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -: 'قوام هذا الدين كتاب يَهدي، وسيْفٌ ينصُر'.

فقد أقام الدِّين بالحُجَّة والبرهان، وبالسيف والسِّنان؛ قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحديد: 25]،

ويقول أيضا: 'لَمَّا كان صلاح بني آدم لا يَتمُّ في دينهم ودنياهم إلا بالشجاعة والكرم، بيَّن الله - سبحانه - أنّه من تَولَّى عنه بترْكِ الجهاد بنفْسِه، أَبدَلَ الله من يَقوم بذلك: ﴿ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير ﴾ [التوبة: 39].

ويقول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: 'اقتحِموا الموت، فرُبَّ جَريء كُتبت له السلامة، وربَّ جبان لَقِي حتْفه في مَكمنه'.

وفي الحكمة: 'أصلُ الخيرات كلِّها في ثَبات القلب، ومنه تُستمَد جميع الفضائل، وهو الثبوت والقوَّة على ما يُوجِبه العدل والعِلم'.

وأختم بقول الشاعر:

وَإِذَا لَمْ يَكُنْ من الْمَوتِ بُدٌّ                                   فَمِنَ العَجِز أَنْ تَمُوتُ جَبَانَا

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى والله وسلم على نبينا محمد.

              الشيخ عبد الباري بن محمد خلة

 

الأكثر مشاهدة


أحاديث الإسراء والمعراج كما جاءت في صحيحي البخاري ومسلم

لقمة الزقوم والقلاش ذوق الطعام من البضاعة قبل الشراء

النفاق الاجتماعي وأثره على الفرد والمجتمع

الاشتراك في القائمة البريدية