الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
فقد قال الله تعالى: { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)} [الحجر: 88]
وقال الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)} [الشعراء: 215]
التواضع: هو انكسار القلب لله، وخفض جناح الذل لخلق الله قال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } (29) سورة الفتح
وقال الجنيد: ' التواضع هو خفض الجناح ولين الجانب'. مدارج السالكين: 2/329
وسئل الفضيل بن عياض- رحمه الله عن التواضع؟ فقال: يخضع للحق، وينقاد له ويقبله ممن قاله، ولو سمعه من صبي قبله، ولو سمعه من أجهل الناس قبله. مدارج السالكين: 2/329
وسئل الحسن البصري رحمه الله عن التواضع. فقال: 'التواضع أن تخرج من منزلك ولا تلقى مسلما إلا رأيت له عليك فضلا' الإحياء: 3/342.
والمؤمن هين ذليل لله متواضع لخلق الله وكلما ازداد العبد تواضعاً لله ازداد رفعة وعزا
ولما دخل رسول الله مكة فاتحا بعد أن طرده أهلها تواضع لله فقد تعمَّم بعمامة سوداء وأحنى جبهتَه تواضعًا وانكسارًا لله تعالى، وبعد دخول مكةَ ظل هو وأصحابه طيلة الليل في عبادة تهجد وتذلل لله.
وعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ خَطِيبًا فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا؛ حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ». رواه مسلم
ثمرات التواضع:
وثمار التواضع كثيرة، منها:
1. حب الله للمتواضعين: قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ المائدة: 54
وقال كعب رضي الله عنه : 'ما أنعم الله على عبد من نعمة في الدنيا فشكرها لله وتواضع بها لله إلا أعطاه الله نفعها في الدنيا، ورفع بها درجة في الآخرة'.
2. الإكرام في الآخرة: فعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ تَوَاضُعًا لِلَّهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ حُلَلِ الْإِيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَمَعْنَى قَوْلِهِ حُلَلِ الْإِيمَانِ يَعْنِي مَا يُعْطَى أَهْلُ الْإِيمَانِ مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ رواه الترمذي بسند حسن.
3. الرفعة: فعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا رَفَعَهُ قَالَ يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَنْ تَوَاضَعَ لِي هَكَذَا وَجَعَلَ يَزِيدُ بَاطِنَ كَفِّهِ إِلَى الْأَرْضِ وَأَدْنَاهَا إِلَى الْأَرْضِ رَفَعْتُهُ هَكَذَا وَجَعَلَ بَاطِنَ كَفِّهِ إِلَى السَّمَاءِ وَرَفَعَهَا نَحْوَ السَّمَاءِ. رواه أحمد بسند صحيح.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ. رواه مسلم.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «مَا مِنْ آدَمِيٍّ إِلا فِي رَأْسِهِ حَكَمة بِيَدِ مَلَكٍ, فَإِذَا تَوَاضَعَ قِيلَ لِلْمَلَكِ: ارْفَعْ حَكَمَته, وَإِذَا تَكَبَّرَ قِيلَ لِلْمَلَكِ: ضَعْ حكمته» رواه الطبراني بسند حسن.
فالبعير يحسن السير إذا رفعت الحكمة عنه كذلك من تواضع لله أسرع في سيره إليه ومن تكبر تعسر سيره إلى الله.
4. المتواضعون يدخلون الجنة: قال الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا... أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا(63) } الفرقان: 64].
وقال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) } [القصص: 83، 84]
قال ابن جُرَيْج: لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ: تعظمًا وتجبرًا، }وَلا فَسَادًا{: عملا بالمعاصي' تفسير ابن كثير (6/258).
وعَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ الْخُزَاعِيَّ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ رواه البخاري
وعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ مَاتَ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ثَلَاثٍ الْكِبْرِ وَالْغُلُولِ وَالدَّيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ رواه الترمذي بسند صحيح.
صور من تواضع الأنبياء والصالحين:
قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) } [آل عمران: 159، 160]
وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ فَقَالَ لَهُ هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ إِسْمَعِيلُ وَحْدَهُ وَصَلَهُ. رواه ابن ماجه بسند صحيح.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرقع ثوبه، ويخصف نعله. ويكون في حاجة أهله
وكان يعود المريض ويتبع الجنائز.
وكانت الأمة من إماء المدينة تأخذ بيده صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت رواه البخاري.
وعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ الذِّكْرَ وَيُقِلُّ اللَّغْوَ وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ وَيُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ وَلَا يَأْنَفُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ فَيَقْضِيَ لَهُ الْحَاجَةَ. رواه النسائي بسند صحيح.
ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم: أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ، فَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَ عَنْهَا، فَقَالُوا مَاتَت. قَالَ:« أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي» ؟ فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا فَقَالَ : «دُلُّونِي عَلَى قَبْرِها»، فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ :«إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ» ، فجاء قبرَها فصلى عليها. رواه البخاري ومسلم.
وهكذا فقد اقتدى الصحابة بسيدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في التواضع والذلة لخلق الله فعن طارق بن شهاب قال: خرج عمر بن الخطاب إلى الشام ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فأتوا على مخاضة وعمر على ناقة له فنزل عنها وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة فقال أبو عبيدة : يا أمير المؤمنين أنت تفعل هذا تخلع خفيك وتضعهما على عاتقك وتأخذ بزمام ناقتك وتخوض بها المخاضة ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك فقال عمر: أوه لم يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله. رواه الحاكم بسند صحيح.
تواضع لرب العرش علك ترفع *** فما خاب عبدٌ للمهيمن يخضع
وهكذا فإن التواضع خلق كريم وصفة عظيمة تكون من المؤمن لأخيه المؤمن يتواضع المؤمن لأخيه فيحترمه ويجله ويقوم على خدمته ويقضي حاجته اقتداء بمن قضى حياته كلها في تواضع لله ولخلق الله فإذا تواضع المسلم لأخيه المسلم كان متواضعا وإن طأطأ لكافر أو منافق فقد داهن ونافق أسأل الله تعالى أن يمتعنا بالتواضع لخلق الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الشيخ عبد الباري بن محمد خلة