الشيخ عبد الباري بن محمد خلة | مقالات | حكم التجسس على المسلمين والقرصنة عبر الإنترنت

اليوم : الأحد 3 محرَّم 1447 هـ – 29 يونيو 2025م
ابحث في الموقع

حكم التجسس على المسلمين والقرصنة عبر الإنترنت

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

فتتبع العورات والتجسس على المسلمين حرام، سواء أكان هذا التجسس للبحث عن عيوبهم أو عن أخبارهم، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [الحجرات:12].

وعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ. وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَبَاغُضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا. وَكُونوا عِبَادَ الله إِخْوَانًا». رواه الشيخان

قال ابن حجر رحمه الله: ( وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ لَا تَبْحَثُوا عَنْ عُيُوب النَّاس وَلَا تَتَّبِعُوهَا، قَالَ اللَّه تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام ( اِذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُف وَأَخِيهِ ) وَأَصْل هَذِهِ الْكَلِمَة الَّتِي بِالْمُهْمَلَةِ مِنْ الْحَاسَّة إِحْدَى الْحَوَاسّ الْخَمْس، وَبِالْجِيمِ مِنْ الْجَسّ بِمَعْنَى اِخْتِبَار الشَّيْء بِالْيَدِ وَهِيَ إِحْدَى الْحَوَاسّ، فَتَكُون الَّتِي بِالْحَاءِ أَعَمَّ. وَقَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِد، وَقَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ: ذَكَرَ الثَّانِي لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِمْ بُعْدًا وَسُخْطًا، وَقِيلَ بِالْجِيمِ الْبَحْث عَنْ عَوْرَاتهمْ وَبِالْحَاءِ اِسْتِمَاع حَدِيث الْقَوْم، فتح الباري لابن حجر (17/ 231)

وقال أيضا: وَيُسْتَثْنَى مِنْ النَّهْي عَنْ التَّجَسُّس مَا لَوْ تَعَيَّنَ طَرِيقًا إِلَى إِنْقَاذ نَفْس مِنْ الْهَلَاك مَثَلًا كَأَنْ يُخْبِر ثِقَة بِأَنَّ فُلَانًا خَلَا بِشَخْصٍ لِيَقْتُلهُ ظُلْمًا، أَوْ بِامْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا، فَيُشْرَع فِي هَذِهِ الصُّورَة التَّجَسُّس وَالْبَحْث عَنْ ذَلِكَ حَذَرًا مِنْ فَوَات اِسْتِدْرَاكه، نَقَلَهُ النَّوَوِيّ عَنْ ' الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة ' لِلْمَاوَرْدِيِّ وَاسْتَجَادَهُ، وَأَنَّ كَلَامه: لَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَبْحَث عَمَّا لَمْ يَظْهَر مِنْ الْمُحَرَّمَات وَلَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنّ اِسْتِسْرَار أَهْلهَا بِهَا إِلَّا هَذِهِ الصُّورَة. فتح الباري لابن حجر (17/ 231)

وقال الإمام النووي – رحمه الله -: قال إِمَام الْحَرَمَيْنِ: وَلَيْسَ لِلْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ الْبَحْث وَالتَّنْقِير وَالتَّجَسُّس وَاقْتِحَام الدُّور بِالظُّنُونِ، بَلْ إِنْ عَثَرَ عَلَى مُنْكَر غَيَّرَهُ جَهْده.

وَقَالَ أَقْضَى الْقُضَاة الْمَاوَرْدِيُّ: لَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَبْحَث عَمَّا لَمْ يَظْهَر مِنْ الْمُحَرَّمَات. فَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اِسْتِسْرَار قَوْم بِهَا لِأَمَارَة وَآثَار ظَهَرَتْ، فَذَلِكَ ضَرْبَانِ.

أَحَدهمَا: أَنْ يَكُون ذَلِكَ فِي اِنْتَهَاك حُرْمَة يَفُوت اِسْتِدْرَاكهَا، مِثْل أَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقَ بِصِدْقِهِ أَنَّ رَجُلًا خَلَا بِرَجُلٍ لِيَقْتُلهُ أَوْ بِامْرَأَةِ لِيَزْنِيَ بِهَا فَيَجُوز لَهُ فِي مِثْل هَذَا الْحَال أَنْ يَتَجَسَّسَ، وَيُقْدِم عَلَى الْكَشْف وَالْبَحْث حَذَرًا مِنْ فَوَات مَا لَا يُسْتَدْرَك. وَكَذَا لَوْ عَرَفَ ذَلِكَ غَيْرُ الْمُحْتَسِبِ مِنْ الْمُتَطَوِّعَة جَازَ لَهُمْ الْإِقْدَام عَلَى الْكَشْف وَالْإِنْكَار.

الضَّرْب الثَّانِي: مَا قَصُرَ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَة فَلَا يَجُوز التَّجَسُّس عَلَيْهِ، وَلَا كَشْف الْأَسْتَار عَنْهُ. فَإِنْ سَمِعَ أَصْوَات الْمَلَاهِي الْمُنْكَرَة مِنْ دَارٍ أَنْكَرَهَا خَارِج الدَّار لَمْ يَهْجُم عَلَيْهَا بِالدُّخُولِ لِأَنَّ الْمُنْكَر ظَاهِر وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْشِف عَنْ الْبَاطِن. شرح النووي على مسلم (1/ 131)

وإذا شك المسلم في أخيه المسلم فليس ذلك مبررا للتجسس عليه فالأصل في المسلم البراءة حتى وإن ظهرت قرائن وأمارات على ارتكاب معصية أو نحوها فلا يجوز التجسس، إلا في حالة واحدة إن خشي ضياع حق أو فوات حرمة أو ضررا محققا واستدعى الأمر التدخل السريع فحينئذ يجوز التحري والتجسس للمصلحة العامة.

وليعلم الجميع أن سوء ظن بالمسلمين حرام وكذا تتبع عوراتهم، والتجسس عليهم،

فعَنْ أَبِى بَرْزَةَ الأَسْلَمِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ قَلْبَهُ لاَ تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِى بَيْتِهِ ». رواه أبو داود بسند حسن صحيح.

ولا يجوز التجسس وإن كان المحمل هو السعي في الإصلاح وأن المتجسس إنما يفعل ذلك من أجل الدعوة في سبيل الله أو مراقبة العصاة وإصلاحهم فكل هذا من الوهم والظن الباطل فلا يجوز إنكار المنكر إلا بالطرق المشروعة، لأن الله لا يتعبد إلا بما شرع، وبالوسائل المشروعة فعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « إِنَّكَ إِنِ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُمْ ». رواه أبو داود بسند صحيح

عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تُؤْذُوا عِبَادَ اللَّهِ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَطْلُبُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ طَلَبَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ طَلَبَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ فِي بَيْتِهِ رواه أحمد بسند حسن

وينبغي للمسلم أن لا يفتح باب الشك والريبة على المسلمين،

وعليه أن يعمل على الإصلاح والتغيير بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالستر الجميل وما من إنسان إلا وله أسراره وما يحب أن يحتفظ به لنفسه، فلا تفتح على غيرك بابا من الشر فيُفتح عليك.

وكن مكان صاحب المعصية فهل تحب أن يفضحك غيرك استر على أخيك ليسترك الله يوم القيامة فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَنَادَاهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى رَدَّدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبِكَ جُنُونٌ قَالَ لَا قَالَ فَهَلْ أَحْصَنْتَ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ فَكُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ. رواه البخاري ومسلم.

قال ابن حجر رحمه الله: وَيُؤْخَذ مِنْ قَضِيَّته أَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِمَنْ وَقَعَ فِي مِثْل قَضِيَّته أَنْ يَتُوب إِلَى اللَّه تَعَالَى وَيَسْتُر نَفْسَهُ وَلَا يَذْكُر ذَلِكَ لِأَحَدٍ كَمَا أَشَارَ بِهِ أَبُو بَكْر وَعُمَر عَلَى مَاعِز، وَأَنَّ مَنْ اِطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ يَسْتُر عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرْنَا وَلَا يَفْضَحهُ وَلَا يَرْفَعهُ إِلَى الْإِمَام كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْقِصَّة ' لَوْ سَتَرْته بِثَوْبِك لَكَانَ خَيْرًا لَك ' وَبِهَذَا جَزَمَ الشَّافِعِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ: أُحِبُّ لِمَنْ أَصَابَ ذَنْبًا فَسَتَرَهُ اللَّه عَلَيْهِ أَنْ يَسْتُرهُ عَلَى نَفْسه وَيَتُوب، وَاحْتَجَّ بِقِصَّةِ مَاعِز مَعَ أَبِي بَكْر وَعُمَر. وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ: هَذَا كُلّه فِي غَيْر الْمُجَاهِر، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مُتَظَاهِرًا بِالْفَاحِشَةِ مُجَاهِرًا فَإِنِّي أُحِبّ مُكَاشَفَته وَالتَّبْرِيح بِهِ لِيَنْزَجِر هُوَ وَغَيْرُهُ. فتح الباري لابن حجر (19/ 238)

وعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ). رواه مسلم ( 2580 ).

فإن تَعَيَّنَ التجسس طَرِيقًا إِلَى إِنْقَاذ نَفْس مِنْ الْهَلَاك مَثَلًا كَأَنْ يُخْبِر ثِقَة بِأَنَّ فُلَانًا خَلَا بِشَخْصٍ لِيَقْتُلهُ ظُلْمًا، أَوْ بِامْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا، فَيُشْرَع فِي هَذِهِ الصُّورَة التَّجَسُّس وَالْبَحْث عَنْ ذَلِكَ حَذَرًا مِنْ فَوَات اِسْتِدْرَاكه، كما نقل ذلك ابن حجر عن الماوردي

ومن الملاحظ أن التجسس الآن يأخذ أشكالا تختلف عن سابقه فمع تطور العلوم والتكنولوجيا تطورت وسائل التجسس وقد اشتهر منها القرصنة في هذا المجال وسرقة المعلومات واختراق أجهزة الحاسوب الحكومية والشخصية والدخول عليها وسرقة البرامج وغيرها بل وأصبحت القرصنة في هذا المجال أرضا خصبة للتجسس بين الناس وعليه فإن التجسس على المسلمين عبر الإنترنت حرام ولا يجوز إلا في حدود ضيقة وبالضوابط المشار إليه في أقوال أهل العلم السابقة وللمصلحة العامة وضمن السياسة الشرعية. والله أعلى وأعلم.

                                 الشيخ عبد الباري بن محمد خلة 

الأكثر مشاهدة


أحاديث الإسراء والمعراج كما جاءت في صحيحي البخاري ومسلم

لقمة الزقوم والقلاش ذوق الطعام من البضاعة قبل الشراء

النفاق الاجتماعي وأثره على الفرد والمجتمع

الاشتراك في القائمة البريدية